سورة الحجرات - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ} أي لا تقدموا أمراً، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأساً أو لا تتقدموا ومنه مقدمة الجيش لمتقدميهم، ويؤيده قراءة يعقوب{لاَ تُقَدّمُواْ}. وقرئ: {لاَ تُقَدّمُواْ} من القدوم. {بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجيناً لما نهوا عنه، والمعنى لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به. وقيل المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعظيم له وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله. {واتقوا الله} في التقديم أو مخالفة الحكم. {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوالكم. {عَلِيمٌ} بأفعالكم.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى} أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته. {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب ومراعاة للأدب. وقيل معناه ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضاً وخاطبوه بالنبي والرسول، وتكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الاتعاظ والدلالة على استقلال المنادى له وزيادة الاهتمام به. {أَن تَحْبَطَ أعمالكم} كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر والرفع استخفافاً قد يؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإِهانة وعدم المبالاة. وقد روي: أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر وكان جهورياً، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفقده ودعاه فقال: يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: «لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة» {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أنها محبطة.
{إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم} يخفضونها. {عِندَ رَسُولِ الله} مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي. قيل كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما. {أُوْلَئِكَ الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} جربها للتقوى ومرنها عليها، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها، فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم. {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} لغضهم وسائر طاعاتهم، والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لأن أو استئناف لبيان ما هو جزاء الغاضين إحماداً لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين، والمبتدأ إسم الإِشارة المتضمن لما جعل عنواناً لهم، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له، وتعريضاً بشناعة الرفع والجهر وأن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك.
{إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات} من خارجها خلفها أو قدامها، ومن ابتدائية فإن المناداة نشأت من جهة الوراء، وفائدتها الدلالة على أن المنادي داخل الحجرة إذ لا بد وأن يختلف المبتدأ والمنتهى بالجهة، وقرئ: {الحجرات} بفتح الجيم، وسكونها وثلاثتها جمع حجرة وهي القطعة من الأرض المحجورة بحائط، ولذلك يقال لحظيرة الإِبل حجرة. وهي فعلة بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة، والمراد حجرات نساء النبي عليه الصلاة والسلام وفيها كناية عن خلوته بالنساء ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من روائها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل. وقيل إن الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد اخرج إلينا، وإنما أسند إلى جميعهم لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به، أو لأنه وجد فيما بينهم. {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة سيما لمن كان بهذا المنصب.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم، فإن أن وإن دلت بما في حيزها على المصدر دلت بنفسها على الثبوت، ولذلك وجب إضمار الفعل وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغنياً بخروجه، فإن حتى مختصة بغاية الشيء في نفسه ولذلك تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولا تقول حتى نصفها، بخلاف إلى فإنها عامة، وفي {إِلَيْهِمُ} إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم. {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لكان الصبر خيراً لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب، والإِسعاف بالمسؤول إذ روي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر فأطلق النصف وفادى النصف. {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} فتعرفوا وتصفحوا، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد بن عقبة مصدقاً إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة، فلما سمعوا به استقبلوه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم بقتالهم فنزلت. وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع، وتنكير الفاسق والنبأ للتعميم، وتعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه، وأن خبر الواحد لو وجب تبينه من حيث هو كذلك لما رتب على الفسق، إذ الترتيب يفيد التعليل وما بالذات لا يعلل بالغير.
وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا أي فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. {أَنْ تُصِيبُوا} كراهة إصابتكم. {قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ} جاهلين بحالهم. {فَتُصْبِحُواْ} فتصيروا. {على مَا فَعَلْتُمْ نادمين} مغتمين غما لازماً متمنين أنه لم يقع، وتركيب هذه الأحرف الثلاثة دائر مع الدوام.
{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} أن بما في حيزه ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} فإنه حال من أحد ضميري فيكم، ولو جعل استئنافاً لم يظهر للأمر فائدة. والمعنى أن فيكم رسول الله على حال يجب تغييرها وهي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم في الحوادث، ولو فعل ذلك {لَعَنِتُّمْ} أي لوقعتم في الجهد من العنت، وفيه إشعار بأن بعضهم أشار إليه بالإِيقاع ببني المصطلق وقوله: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} استدراك ببيان عذرهم، وهو أنه من فرط حبهم للإِيمان وكراهتهم للكفر حملهم على ذلك لما سمعوا قول الوليد، أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إحماداً لفعلهم وتعريضاً بذم من فعل ويؤيده قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون} أي أولئك المستثنون هم الذين أصابوا الطريق السوي، {وَكَرَّهَ} يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد فإذا شدد زاد له آخر، لكنه لما تضمن معنى التبعيض نزل كره منزلة بغض فعدي إلى آخر بإلى، أو نزل إليكم منزلة مفعول آخر. و{الكفر}: تغطية نعم الله بالجحود. {والفسوق}: الخروج عن القصد {والعصيان}: الامتناع عن الانقياد.
{فَضْلاً مّنَ الله وَنِعْمَةً} تعليل ل {كَرِهَ} أو {حَبَّبَ}، وما بينهما اعتراض لا ل {الرشدون} فإن الفضل فعل الله، والرشد وإن كان مسبباً عن فعله مسند إلى ضميرهم أو مصدر لغير فعله فإن التحبيب والرشد فضل من الله وإنعام. {والله عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل {حَكِيمٌ} حيث يفضل وينعم بالتوفيق عليهم.


{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع. {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى. {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} تعدت عليها. {فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِئ إلى أَمْرِ الله} ترجع إلى حكمه أو ما أمر به، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين. {فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بفصل ما بينهما على ما حكم الله، وتقييد الإِصلاح بالعدل هاهنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة. {وَأَقْسِطُواْ} واعدلوا في كل الأمور. {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} يحمد فعلهم بحسن الجزاء. والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة.
{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإِيمان الموجب للحياة الأبدية، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإِصلاح ولذلك كرره مرتباً عليه بالفاء فقال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص، وخص الإثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق. وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج. وقرئ: {بين إخوتكم} و{إخوانكم}. {واتقوا الله} في مخالفة حكمه والإِهمال فيه. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} على تقواكم.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مّن نّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنّ} أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و{عَسَى} باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإِغناء الاسم عنه. وقرئ: {عسوا أن يكونا} و{عسين أن يكن} فهي على هذا ذات خبر. {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أي ولا يغتب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه. واللمز الطعن باللسان. وقرأ يعقوب بالضم. {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفاً.
{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإِيمان واشتهارهم به، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق وإلى المؤمنين خصوصاً إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: «هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام» أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح. {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهى عنه. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن} كونوا منه على جانب، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وما يحرم كالظن في الإِلهيات والنبوات وحيث يحالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية. {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} مستأنف للأمر، والإِثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها. {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس، وقرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولذلك قيل للحواس الخمس الجواس. وفي الحديث: «لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته» {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته. وسئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان وجعل المأكول أخاً وميتاً وتعقيب ذلك بقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ} تقريراً وتحقيقاً لذلك. والمعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، وانتصاب {مَيْتًا} على الحال من اللحم أو الأخ وشدده نافع. {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} لمن اتقى ما نهى عنه وتاب مما فرط منه، والمبالغة في ال {تَوَّابٌ} لأنه بليغ في قبول التوبة إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم، روي: أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً، وكان أسامة على طعامه فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما»، فقالا: ما تناولنا لحماً، فقال: «إنكما قد اغتبتما» فنزلت.


{يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدم وحواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب. ويجوز أن يكون تقريراً للأخوة المانعة عن الاغتياب. {وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ} الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل. والقبيلة تجمع العمائر. والعمارة تجمع البطون. والبطن تجمع الأفخاذ. والفخذ يجمع الفضائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وعباس فصيلة. وقبل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب. {لتعارفوا} ليعرف بعضكم بعضاً لا للتفاخر بالآباء والقبائل. وقرئ: {لتعارفوا} بالإِدغام و{لتتعارفوا} و{لتعرفوا}. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} فإن التقوى بها تكمل النفوس وتتفاضل بها الأشخاص، فمن أراد شرفاً فليلتمسه منها كما قال عليه الصلاة والسلام: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وقال عليه الصلاة والسلام: «يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله» {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكم {خَبِيرٌ} ببواطنكم.
{قَالَتِ الأعراب ءامَنَّا} نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون. {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} إذ الإِيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب، ولم يحصل لكم إلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة والسلام بالإِسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة. {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} فإن الإِسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا}، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازاً من النهي عن القول بالإِيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعاً. {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ} توقيت ل {قُولُواْ} فإنه حال من ضميره أي: {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بالإِخلاص وترك النفاق. {لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم} لا ينقصكم من أجورها. {شَيْئاً} من لات يليت ليتا إذا نقص، وقرأ البصريان {لا يألتكم} من الألت وهو لغة غطفان. {إِنَّ الله غَفُورٌ} لما فرط من المطيعين. {رَّحِيمٌ} بالتفضل عليهم.
{إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإِيمان عنهم، و{ثُمَّ} للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإِيمان ليس حال الإِيمان فقط بل فيه وفيما يستقبل فهي كما في قوله: {ثُمَّ استقاموا} {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} في طاعته والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها. {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} الذين صدقوا في إدعاء الإِيمان.
{قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أتخبرونه به بقولكم {آمنا}. {والله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لا يخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ. روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاؤوا وخلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} يعدون إسلامهم عليك منة وهي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته. وقيل النعمة الثقيلة من المن. {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم} أي بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال. {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان} على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء، وقرئ: {إن هَداكُمْ} بالكسر و{إِذْ هَداكُمْ}. {إِن كُنتُمْ صادقين} في ادعاء الإِيمان، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، وفي سياق الآية لطف وهو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيماناً ومنوا به فنفى أنه إيماٌن وسماه إسلاماً بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام وليس بجدير أن يمن به عليك، بل لو صح ادعاؤهم للإِيمان فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} ما غاب فيهما. {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، وقرأ ابن كثير بالياء لما في الآية من الغيبة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه».